الملحوظة الأولى: ذكر الأستاذ الكاتب أنه وصل اتكال الناس على الفتوى إلى حد السؤال - مثلا - عن حكم استعمال الجوال المتضمن آلة التصوير، وعن حكم العدسات اللاصقة ...إلخ.
وأنا أظن أنه لا اختلاف مع الكاتب في أن الله أمر في كتابه الكريم بسؤال أهل الذكر عن ما لا يعلم في الدين، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وأن سؤالات الناس في هذه المسائل ليس بحثاً عن رأي طبي ولا مشورة تقنية - فأهل الاختصاص العلمي أعلم بتخصصهم من غير المتخصصين من علماء الشريعة - لكن سؤالات الناس إنما هي عن الحكم الشرعي أو رأي المجتهدين في استعمال الجوال ذي الكاميرا، والعدسات - مثلا - هل تجوز أو لا؟ وعن لبس العدسات: هل يعتبر زينة مباحة، أو هي من التزين بما لم يعطه الإنسان فينهى عنها؟ وليس في ذلك غضاضة ولا منقصة، بل هو أمر محمود ألا يقدم المرء على أمر حتى يسأل أهل الذكر، لأن كتاب الله وسنة نبيه حاكمان على جميع التصرفات والوقائع، نصاً أو إيماءً، قال تعالى: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، وقال أبو ذر رضي الله عنه: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم)(1).
الملحوظة الثانية : ذكر الأستاذ الكاتب نقلا عن الشيخ أحمد ابن العلامة عبدالعزيز بن باز بأن تغير الصورة المحيطة بالحالة تستوجب تغيير الحكم الشرعي، وأن فتاوى والده ابن باز ليست صالحة لكل الحالات، وأن لكل فتوى حالتها المعينة..إلخ.
وأقول في هذا الكلام: إن فيه تساهلاً في العبارة، وبيان ذلك أن الحكم الشرعي وهو حكم الله ورسوله لا يتغيران بعد انقطاع الوحي بحال من الأحوال، فلا تتغير الأحكام بتغير الزمان، فهل يتغير حكم الله في تحريم شرب الخمر لأن بعض الناس ألفوه ؟ وهل يتغير حكم الله في الربا لأن بعض الناس تساهلوا فيه في هذه الأزمان؟ لا بل الذي يتغير هو اجتهاد العلماء وفتاويهم في الوقائع التي لا نص فيه نصاً أو إيماءً، كأعراف الناس وعاداتهم التي ليس فيها حكم شرعي، أما أن يتغير شرع الله وأحكامه لتغير الزمان فلا، وإلا للزم تغيير أحكام الإسلام جملة وتفصيلاً آخر الزمان حين لا يبقى سوى شرار الناس.
الملحوظة الثالثة : ذكر الأستاذ الكاتب أن مجمل الفتاوى كان مرتبطاً بأشهر علماء كل عصر، ولم تمثل إجماع علماء العصر، بل اجتهاد أكثرهم حضوراً ونفوذاً، ورأى أنه حان الوقت للخروج من الحالة السابقة إلى إقرار إجمال فقهاء العصر دون فتاوى من سبقهم، واستدل لذلك برأي الإمام ابن جرير الطبري بأن الإجماع ينعقد بإجماع علماء العصر، ولي مع هذا الجزء من المقالة وقفات مهمة جداً:
1 - قوله بأن يؤخذ بإجماع فقهاء العصر دون فتاوى من سبقهم، ولعله قد خفي على الكاتب مسائل مهمة ذكرها علماء أصول الفقه، فأقول: إن فتاوى السابقين إما أن تكون - في واقع الأمر - إجماعاً من أهل عصرهم أو لا:
أ - فإن كانت إجماعاً، فلا تجوز مخالفة الإجماع بعد انعقاده، لأن إحداث قول آخر بعد انعقاد الإجماع اتهام للأمة في عصر من العصور بالاجتماع على ضلالة، قال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)، والأمة معصومة عن الاجتماع على الخطأ، كما روي ذلك مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وموقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه، ومعناه صحيح، ولا أظن الكاتب يخالف في ذلك، لأنه يقول بالأخذ بالإجماع لعلماء هذا العصر، ويراه حجة.
ب - وإن لم تكن بعض فتاوى السابقين إجماعاً - وهذا ما يراه الأستاذ الكاتب - بل كان بين أهل العصر الماضي اختلاف، فيقال: ذكر علماء الأصول مسألة مهمة: وهي إذا اختلف أهل عصر من العصور في مسألة على قولين، واستقر خلافهم، فهل لمن بعدهم الاتفاق على أحد القولين؟
فالجواب : لا، لأن اختلافهم يعني حصول إجماعهم على جواز الأخذ بأحد القولين، فإذا أجمع من بعدهم على أحد القولين فهذا يعني أن أحد الإجماعين خطأ قطعاً، ولا شك أن هذا غير جائز ولا واقع، لأن الإجماع الأول يسوغ الخلاف والثاني يحرمه، ولا شك أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا تخلو من قائم بالحق في أي عصر، فتبين أنه لا يجوز الاتفاق على أحد القولين في عصر لاحق لخلاف(2) وهذا يعني عدم قبول رأي الكاتب في الأخذ بإجماع أهل هذا العصر فقط دون من سبقه، سواء جعلنا فتاوى أهل العصر السابقين إجماعاً أو لا.
2 - استدل الكاتب لفكرة أخذ إجماع علماء هذا العصر دون من سبقهم، استدل بأن الإمام ابن جرير - رحمه الله - عرف الإجماع بإجماع أهل العصر، وقال الكاتب عقب ذلك - بما نصه: (أي أولئك الذين يعيشون ذلك العصر، وليس الذين عاشوا في عصور مضت)، فيقال:
أ - إن ما عقب به الكاتب فهو خاطئ، وليس هو رأي ابن جرير ولا أعلمه رأي غيره من العلماء، فالعلماء يقصدون بعبارة (إجماع أهل العصر) أن الإجماع لا يحصل إلا بإجماع واتفاق جميع مجتهدي العصر الذي حصلت فيه الواقعة، وليس في ذلك تعرض لأهل العصر الماضي - كما ذكر الكاتب - لا من قريب ولا من بعيد، بل يقال كما سبق في الفقرة رقم (1) من عدم جواز الاتفاق على أحد قولي أهل العصر السابق.
ب - شكك الكاتب في حصول الإجماع لبعض المسائل في العصر الماضي، وعلل ذلك بأنه اجتهاد أكثر العلماء حضوراً ونفوذاً ...إلخ، وعن هذه الدعوى أجوبة:
الجواب الأول : أقول: إن ما نقله العلماء الثقات ولو ثقة واحد بأن إجماع فهو كذلك، وعلى من يدعي بأنه ليس إجماعاً عليه الدليل والإثبات بوجود خلاف معتبر لا ينعقد به الإجماع، وليت الكاتب يذكرنا ويدلنا على مسألة ادعى فيها عالم ثقة الإجماع - من العصر الماضي - وتبين وجود مجتهد مخالف، وتم تأييد الإجماع خطأ.
الجواب الثاني : الكاتب أخذ برأي ابن جرير في الإجماع وفي تولية المرأة، وهذا يدل على ثقته برأي ابن جرير ومذهبه، وعليه أن يأخذ برأي ابن جرير في كل مسائل الإجماع، فإذا اتضح ذلكم فيقال: لو سلمنا بوجود خلاف من بعض المجتهدين في العصر الماضي في بعض المسائل، فإن مذهب ابن جرير أن الإجماع يحصل باتفاق أكثر المجتهدين، ولا يشترط اتفاق جميع المجتهدين(3)، فإذا كان رأي ابن جرير بأن الإجماع يحصل برأي الأكثر، فعلى الكاتب أن يأخذ برأي ابن جرير في الإجماع كله أو يدع رأيه فيه كله، وعليه أن يعتبر قول الأكثر - في العصر الماضي - أن يعتبره إجماعاً، حتى لا يعده العقلاء متشهياً، على أن بعض العلماء ذكر أن ابن جرير بقوله هذا قد شذ عن الجماعة، فينبغي ألا يعتبر خلافه، ويكون مخالفاً للإجماع بعين ما ذكر(4).
الجواب الثالث : قال الكاتب: (وهذا المنطق لم يكن له حضور في مراحل تاريخ الفتوى محلياً)ا.هـ،
وأفهم من هذا: أن الكاتب يشير إلى أن هناك مسائل يذكر فيها الإجماع وليست في واقع الأمر كذلك، ويرغب الكاتب تطبيق الإجماع بحيث يتفق علماء العصر كلهم، وأقول: إن هذا الكلام غير دقيق وفيه تناقض، لأن من يأخذ برأي ابن جرير - كالكاتب - يلزمه أن يجعل رأي الأكثر إجماعاً، وإن أخذ بقول جماهير العلماء وأن الإجماع هو اتفاق الكل فيلزم منه رد رأي ابن جرير، ولا أظن الكاتب يقول بهذا.
الملحوظة الرابعة: ذكر الكاتب أن الإمام ابن جرير يرى جواز تولية المرأة للمسؤوليات، وأنه أخذ بهذا الاجتهاد بناء على الأكثرية، واستدل الكاتب بالقياس على الفتيا واعتبار الإجماع الحاصل على جواز تولي المرأة مهمة الإفتاء ورواية الحديث، والجواب عن ما ذكره الكاتب بأمور:
أ - إن بعض المحققين من أهل العلم يشكك في نسبة جواز القول - بتولية المرأة للقضاء - إلى الإمام ابن جرير، كما نبه على ذلك الإمام ابن العربي المالكي وغيره، كما أن رأيه ذاك لم يوجد في أمهات كتبه المطبوعة(5).
ب - ذكر الكاتب أن ابن جرير اعتمد على رأي الأكثرية، وأن للمرأة أن تكون حاكماً في كل شيء بلا قيود. ا.هـ، وهذا تلبيس من الكاتب، فابن جرير لم يقل بجواز تولية المرأة كل شيء، بل رأيه - إن ثبت - يجوز تولية المرأة للقضاء فقط، ومع ذلك فقد خالف ابن جرير جماهير علماء الأمة قديما وحديثا(6)، فلم يكن رأيه رأي أكثرية أبداً.
ج - استدل الكاتب بجواز توليه المرأة للولايات بالقياس على الإجماع على جواز روايتها للحديث والفتيا، وهذا القياس محل نظر، لأنه قياس مع الفارق، ووجه ذلك أن الفتيا والرواية ليستا ولاية لا تنعقد إلا من ولي الأمر، بخلاف القضاء وغيره، بالإضافة إلى أني لا أعلم أحداً من العلماء المعتبرين قديماً لا ابن جرير ولا غيره قال بأن للمرأة تولي جميع الولايات التي هي أعظم من القضاء، لما رواه البخاري في صحيحه وغيره من حديث أبي بكرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).